مسرحية تونسية ظلت أسيرة التعداد والتذكير بما يحدث رغم نواياها الحسنة!
بقلم أنسي اليوسفي
عن 'القدس العربي'
تم عرض مسرحية 'على البحر الوافر' للكاتب عز الدين المدني يومي 10 و 11 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري. ولقد افتتحت المسرحية موسمًا جديدًا للمسرح تحت اسم 'تونس تقيم كوميدياها'، بدأ من شهر تشرين الأول (أكتوبر) و ينتهي في شهر حزيران (يونيو) المقبل.
جمعت المسرحية وجوها من أهم الممثلين التونسيين الذين طال غيابهم عن المسرح أو الكاميرا. نذكر من تلك الأسماء: هشام رستم، منصف السويسي ومحمود كوكة، إضافة إلى مجموعة شابة من طلبة المعهد الأعلى للفنون الدرامية بتونس.
موضوع المسرحية جديد و طريف: ابن خلدون، مواطن تونسي يعيش في العام 2033 ويصارع كي يتم الاعتراف به في زمن أمسى فيه المثقف عبئاً على الدولة وخطرًا على أمنها.
ركزت المسرحية على حالة القلق والضياع اللامتناهي التي تجعل من المثقف قنبلة موقوتة، توشك على الانفجار في أية لحظة. فهذا المثقف يجد نفسه في موقف حرج، فإما أن يتنازل عن رمزية الدور الذي يمثله ويقبل بمنصب في الدولة أو أن يعلن الحرب ويدخل في متاهات لعل أهمها انفصام الشخصية الذي يجعله يحارب نفسه وصولا إلى تدمير ذاته.
ومن أهم النقاط التي يجب التوقف عندها أن المسرحية كانت باللغة العربية. فقد اعتدنا رؤية العديد من الممثلين في أعمال إما باللغة الفرنسية أو باللهجة التونسية. فجاء هذا العمل بمثابة تحدٍّ في حد ذاته. هذه الجرأة في اختيار اللغة يعكس واقع تونس، التي أصبحت تعول على اللغة الفرنسية للتخاطب والتواصل، كبقية بلدان المغرب العربي، ما جعل اللغة العربية تبدو في نوع من العزلة وترمز للرجعية والسذاجة. وبالتالي فإن اختيار اللغة العربية لهذه المسرحية ينم عن وعي بهذه القضية، فكانت هذه المجازفة لفتة جريئة من فنانينا، لكن إن لم يتم دعمها بمسرحيات أخرى فإنها ستمسي كصرخة في صحراء قاحلة.
هذا الاختيار الجريء للغة نمّ عن وعي بواقع المثقف غير أن ذلك لم يجعل المسرحية موجهة له بصفة خاصة، أي أنها لم تُقْصِ الإنسان العادي من بين جمهورها. تخللت المسرحية عبارات باللهجة التونسية وتم تعريب بعض الألفاظ التونسية مما أضاف نوعا من المرح والأصالة التي من شأنها أن ترسم الابتسامة على وجه المشاهد ولا تغتصبها منه على غرار بعض المسرحيات.
ومن النقاط الايجابية كذلك، إشراك مجموعة من طلبة المسرح في تونس، رغم أن المسرحية جمعت ثلة من أهم المسرحيين، فأصبحت بمثابة قنطرة تربط بين أسفل الجبل وأعلاه.
مع ذلك يتوجب الوقوف عند بعض النقاط الأخرى، ولعل من أهمها طرح العديد من المسائل التي تهم المثقف التونسي بدرجة أولى والعربي بدرجة ثانية، دون وجود نية أو رغبة في معالجتها. وبتعبير آخر، فقد كانت المسرحية أشبه بتعداد وتذكير بالمشاكل التي يعاني منها هذا المثقف المسكين ما جعل المسرحية تبقى في مستوى معين دون أن تكتسب القدرة على تجاوز نفسها وأخذ المشاهد إلى مستوى آخر من الوعي. فأصبح المشهد عبارة عن غريق يرفع رأسه من تحت الماء لكن لا يسعه استنشاق حاجته من الهواء إذ أن موجة أخرى تعود لتزرعه في قاع المحيط.
تم طرح العديد من القضايا بكثافة وبنسق متسارع ما جعل النهاية تأتي مبكرة وسابقة لأوانها حيث أن بطل المسرحية، ابن خلدون، آثر الهروب من واقعه من باب صغير بعد أن سجل دخوله من باب أكبر منه بكثير.
ومن تلك القضايا المطروحة أيضا أن نص المسرحية طرح العديد من الإشكاليات: في بادئ الأمر نرى كيف تختار المؤسسة الأكاديمية أعضاءها ومواصفاتهم، فنتعرف على المتلاعب والمنافق و'القفّاف'(المتزلف) الخ. ويدل فحوى هذه الرسالة الملغومة على أن الكثير ممن يدّعون العظمة لا يستحقون المكانة والمنصب اللذيْن يحتلانهما. طرح كذلك دور الصحافة في تحولها إلى سلاح فتاك ضد المثقف بدل حمايته. هذه القضايا وغيرها خلفت عند المشاهد الإحساس بان المسرحية لم تأخذ مداها المقْنع لأن طرح القضايا على نحو مكثف خلق نوعا من التشبع السلبي. من المؤكد أنه لو فسح في المجال للمسرحية كي تتنفس أكثر لكانت النتيجة أقوى بكثير. لكن، على العموم، كانت مسرحية جديرة بالمشاهدة وأضافت للمسرح التونسي نجاحا جديدا مهما كانت درجته.